لا للقيادة الدفاعية
منذ أكثر من 40 عاماً، حصلت على رخصة القيادة وكنت سعيدا بها، ونصحتني أمي ألا أجعل السيارة سببا في قتلي أو قتل أحد غيري، وتطور ذلك المفهوم شيئا فشيئا، حين بدأنا نسمع عن القيادة العدوانية، أو القيادة الهجومية، التي يتعامل من خلالها السائق مع الآخرين حديداً بحديد، وقوة بقوة وتحدياً بتحدٍ، وكأنه لبس درعا حديدية، ذهب بها إلى المعركة، فظللنا ننتقد ذلك الشخص، دون أن تتبلور لدينا خطة بديلة، أو شخصية قيادية نموذجية.
حين عملت مع صديقي أبي سيف اللواء الخبير المهندس محمد سيف الزفين ـ منذ 20 سنة تقريبا ـ بدأت أتحول من إعلامي في الشأن العام، إلى إعلامي متخصص بشؤون التوعية المرورية، وتمكن من تحويلي سريعا بشخصيته العبقرية، إلى خبير في التوعية المرورية، وكان النموذج البديل المعتمد لديه ولدى خبراء الإعلام عالميا، القيادة الدفاعية، التي يتخذ قائد المركبة من خلالها وضعية الدفاع عن نفسه، برفع درجة الحذر، وتوقع أخطاء الآخرين، ووضع خطط طوارئ لتجنب المخاطر، واكتشفت أن لهذا المفهوم قواعد عامة وخاصة، وأن مؤشرات الطريق، وتفاصيل الصور توحي للسائق بخطوات وقرارات لا بد من اتخاذها، فإذا مررت بجوار مدرسة خفف سرعتك، فلعل أحد الطلاب يخرج منها سريعا، دون أن ينتبه للطريق، وإذا رأيت كرة تتدحرج في الطريق، فخفض سرعتك إلى الحد الأدنى، فلعل طفلا يتبعها، وطائفة من المبادئ التي تحمي سائق المركبة، من الأضرار والإصابات، وتحميه من ارتكاب الأخطاء بحق الآخرين.
وعندما حصل ابني محمد على رخصة القيادة، جهزت له وابلا من النصائح حول القيادة الدفاعية، التي احتاجت أن أكتبها حتى لا أنساها، ولكن النظرية سقطت في نظري فجأة قبل أن أبدأ معه، لأنني تخيلت ولدي يرد علي قائلا: أنت تريدني أن أقود المركبة بتوتر شديد، وشد أعصاب، وكأنني فعلا في معركة أدافع فيها عن نفسي، فتبلور لدي في تلك اللحظة مفهوم آخر للقيادة وهي القيادة بأخلاق، الذي ما أن طرحته على هذا الشاب ـ الذي يمثل جيله ـ حتى قال لي: سأكون عند حسن ظنك يا أبي.
القيادة بأخلاق أن يمثل أمام عيني وأنا أقود المركبة طفلي الصغير وطفلتي الصغيرة، عندما أعبر أمام مدرسة وليس أي طفل آخر..
القيادة بأخلاق أن أنظر إلى السائق الذي بجواري على أنه أخي وجاري في المنزل وصديقي..
القيادة بأخلاق أن أتعامل مع عابرة الطريق بوصفها والدتي أو أختي أو زوجتي أو ابنتي..
القيادة بأخلاق أن أحرص على زرع الطمأنينة في نفوس الآخرين، فلا بأس أن أعتذر لمن تجاوزت حقي معه دون أن أشعر، وأن أشكر من أفسح لي الطريق، وأن أفسح الطريق للمحتاج، حتى لو لم يكن صاحب حق، وأن أقود بروية وسكينة، متمنيا ألا يصاب أحد حولي بسوء، وليس ألا أصاب أنا أو أصيب غيري فقط.