يظن بعض المشاهير (وبعضهم يحملون شهادات علمية عالية)، أن الشهرة تغني عن الأصول العلمية، فما دام مشهورا، ويستمع إليه كثير من الناس، يحق له أن يستنبط من قواعد اللغة وأسرارها، (ما لم يفطن إليه أحد قبله)، حتى لو خالف الأصول بما توصل إليه.
فقد زعم أحدهم، أن الفرق الوحيد بين القرية والمدينة، هو تفاوت دين سكانها، أو نسبهم، أو انسجامهم، مستشهدا بمكة: (أم القرى)، والمدينة المنورة، متجاهلا أن مكة المكرمة لم يكن كل أهلها على دين واحد، فكان فيهم من لا يعبدون الأصنام، وكانت قرية، ومع ذلك لم يتغير اسمها من قرية إلى مدينة بعد الإسلام، والمدينة لم يكن كل سكانها مؤمنين، وكانت مدينة، وأصبحوا كلهم مؤمنين، وظلت مدينة.
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا}، فهل كان أهلها كلهم على منهج واحد؟!
وقال: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ}، فهل كان منسجما معهم.
فالتعبير بالقرية أو المدينة عند العرب، يجيء لأغراض بلاغية، تناسب السياق في الكلام، وما يريد المتكلم أنه يبعثه في نفس المستمع، والعرب لم تفرق بين القرية والمدينة والبلدة بحسب عدد السكان، وإنما فرقت بحسب ما يعنيه أصل الكلمة ودلالاتها، فسميت مكة قرية، وهي أكبر حاضرة في شبه جزيرة العرب، عند نزول القرآن، كما سميت (أم القرى)، لأنها كانت أم المدائن والحواضر، التي يؤمها العرب جميعا للحج والتجارة.
فالقريــــة مجتمعٌ سكانيٌّ، في مَكَانٍ اتَّصَلَتْ بِهِ الْأَبْنِيَةُ وَاتُّخِذَ قَرَارًا، وقد سمِّيت قريةً لاجتماع النَّاس فيها، و(القرية) مشتقة من القرار في المكان، أو من الاجتماع فيه، يقال قرى الماءَ في الحوض إذا جمعه فيه، ومشتقة من القِرَى بكسر القاف بمعنى الضيافة، لأن قِرى الضيف من عادة سكان القُرى.
أما المدينة فهي مشتقة من مَدَن أي أقام، يقال مَدَنَ في المكان إذا أقام فيه واتخذه موطنا له.