هو ليس أجمل الطرقات، التي قد يسلكها المسافر برا، ولا هو أبردها ليمنحنا نسيما عليلا، بل ربما كان الأشق والأقسى على المركبة، وركابها، ولكنه الأرق والأهنأ على النفوس، إنه الطريق إلى مكة، حيث البلدُ الأمينُ الأحبُ إلى قلب رسولنا، محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
مرة وصلناها من دبي بست عشرة ساعة، ومرة بلغناها ـ بلغها الله الجميع ـ بعشرين ساعة، وكانت لنا في كل مرة تجربة مختلفة، تستحق الوقوف مليا، واستخلاص العبر والفوائد.
في الست عشرة ساعة، كانت أعصاب كل من يجلس خلف المقود مشدودة، متوترة، مدفوعا بتشديد التركيز، ولم نكن نعلم أن تركيز التركيز، يؤدي إلى تبخره، فبعد ساعتين من القيادة، كان التركيز يبدأ بالتلاشي، وتصبح ردة الفعل بطيئة جدا، ويصبح التجاوب مع طوارئ الطريق، دون حد الأمان، بسبب سرعة المركبة وطيها الأرض سريعا، ولضعف قدرة قائدها على اتخاذ القرار سريعا، ووصلناها منهكي القوى، لا نقوى على عمرة، ولا حتى طواف زيارة، ولكن الله سلم.
عندما اتبعنا حديث رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الناهي عن العجلة، كنا نسير وكأننا في بلادنا، فمرة نقف ونتزود بالوقود، وأخرى بالمرطبات، ومرة نصلي، ولا نطلق للمركبة عنانها، وصلنا متأخرين أربع ساعات، عن المرة السابقة، ولكننا بادرنا إلى الحرم الآمن، وقرت عيوننا بمعانقة الكعبة المشرفة، وعقولنا وقلوبنا في مواقعها، وعدنا إلى مساكننا آمنين، مرتاحي البال والجسد، فقد كانت رحلة هادئة آمنة، ولو طال الوقت قليلا، فكان الوقت كله ملكنا.
في السفر برا الذي يستغرق ساعات طوالا، تختلف طاقات الناس، وإمكاناتهم، ومركباتهم، ووعي مرافقيهم، ولكن الذي لا يختلف أبدا، اتباع الحكمة، والتريث، والمنطق والعقل، وعدم المبالغة في استنهاض همة التحمل، والمثابرة، فالأمر أهون من التحدي، الذي قد تكون عواقبه وخيمة، وكما قال المثل: (من غامر وسلم، كأنه ما سلم).
السفر برا يتطلب: سيارة مؤهلة، وعقلا منفتحا، ومعلومات واضحة عن الطريق، وبدء الرحلة بعد نوم عميق، والتوقف والنوم عند أول شعور بالإرهاق، ولو كان النوم داخل المركبة، والتقليل من الطعام خلال الرحلة البرية، والإكثار من المشروبات غير الغازية، وتجنب المنبهات غير الطبيعية، التي تبقي العينين مفتوحتين، وتترك القلب يغفل، وقبل هذا وذاك التحلي بالحلم، والسكينة والرفق، في الأمر كله، واتباع أمر رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، في الحديث المرسل: (فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى).