زعم بعض أصحاب الفهم السطحي للغة القرآن الكريم والعرب، أن قول الله تعالى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}. (يسن 52). ينسف حقيقة عذاب القبر من أصلها، وزعموا أن عرض فرعون وآله في القبر على النار، ليس عذابا وإنما نوع من الترفيه للنار، وهذا فهم سقيم لكتاب الله، وللنصوص الشرعية.
أولا:
قول أصحاب هذا الفهم السقيم مردود للأسباب الآتية:
1 ـ ثبت يقينا في العديد من الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث الصحيحة، صحة وجود عذاب القبر صراحة.
2 ـ الآيات القرآنية لا تتعارض إطلاقا، وإنما نحن الذين يجب أن نفهم كيفية التوفيق بينها.
3 ـ لا يوجد أي تعارض بين آيات القرآن الكريم، وبين الصحيح الصريح من حديث رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
4 ـ لا يجوز اجتزاء نص من القرآن والسنة، والاحتجاج به بمعزل عن سياقه، وبمعزل عن النصوص الأخرى، وإلا لصح الاحتجاج بقول الله تعالى: {لا تقربوا الصلاة}.
5 ـ لا يجوز الزعم أن آية قرآنية، تكذب آية أخرى، أو تتعارض معها، لأن ذلك كفر يخرج صاحبه من الملة.
6 ـ الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية التي أثبتت عذاب القبر نفسها، أثبتت أن عذاب القبر ليس حالة مسلما بها، لجميع الخلق، وإنما هي لأناس، بسبب أفعال معينة، ويمكن النجاة منه، بالعمل الصالح، والقول الصالح، والدعاء وتجنب موجباته.
7 ـ الزعم أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لم يفهم القرآن جيدا، وأنه ربما يقول أمرا يتعارض مع حقائق القرآن، يعد كفرا وخروجا عن الملة.
8 ـ الزعم أننا قد نفهم القرآن فهما خيرا من فهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأننا يمكننا أن نصوب له خطأه، يعد كفرا وخروجا عن الملة.
9 ـ الزعم أن ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، من علم الغيب ليس صحيحا، وأننا توصلنا إلى ما هو أصح منه، يعد كفرا وخروجا عن الملة.
10 ـ الاستهزاء بصحة حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والعبث بعلم الحديث، وتكذيب أي حديث لا يعجبنا، أو لا يتوافق مع آرائنا، يعد زندقة، وربما خروجا عن الملة.
ثانيا:
أما توفيق هذه الآية مع الآيات الأخرى، فله أوجه عديدة نذكر منها:
1 ـ أن عذاب القبر ليس قضية حتمية لجميع الخلق، وقد نبه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إلى ذلك بأن حدد أصنافا أصابهم عذاب القبر، وبين سبب ذلك، وعلمنا أن نستعيذ بالله من عذاب القبر، فربما كانت هذه الفئة المذكورة في الآية، ممن لم ينلهم عذاب القبر، وعند ذلك فإنها تنفي عذاب القبر عن هؤلاء القوم، وليس تنفيه إطلاقا.
2 ـ ربما أصاب هذه الفئة عذاب القبر فترة من الزمن، ثم توقف عنهم، بينما هناك من لا يتوقف عنهم عذاب القبر، كأمثال فرعون وآله، الذين بين الله أن العذاب مستمر عليهم، إلى يوم القيامة.
3 ـ ربما وجد هؤلاء المعذبون عذاب القبر أقرب للنزهة والرقاد، مقارنة بالعذاب، الذي لاقاههم يوم البعث العظيم.
4 ـ تعبير الآية عن حالتهم قبل البعث بالرقاد لا تنفي العذاب، لأنهم ربما كانوا يعذبون، وهم في حالة اضجاع، قبل أن يبعثهم الله خارج قبورهم.
5 ـ ربما كان رقاد الكفار، وتوقف عذاب القبر عليهم بين النفختين، حين أصبحوا من الأجداث، لا يعلمون شيئا حتى جاءت النفخة الأخيرة فأيقظتهم.
ثالثا:
وهذه بعض الأدلة من القرآن التي تؤكد حقيقة عذاب القبر، وأن العرض على النار فيه عذاب، وليس نزهة أو تسلية للنار:
1 ـ {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}، فالنار هنا وقعت بدلا لكلمة سوء العذاب.
2 ـ {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}.
3 ـ {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ}.
4 ـ {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ}*
{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ}.
5 ـ هل يكافئ الله الكفار في قبورهم بعد شهادتهم على أنفسهم بالنوم العميق؟!
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ}.
6 ـ هذا الصعق يشمل عذاب القبر وما قبله..
{فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون}.
{يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون}.
{وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون}.
7 ـ طلوع الروح أول مراحل عذاب القبر..
{ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون}.
8 ـ يهود يعذبون في قبورهم إلى يوم القيامة وليس حتى موتهم فقط.
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
رابعا:
وهذه بعض الأدلة من السنة التي تؤكد حقيقة عذاب القبر:
1 ـ علمنا رسول الله أن نستعيذ من شرور حقيقية وليست أساطير أو خيالات..
روى النسائي في صحيحه أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ كانَ يَدعو يقولُ في دعائِه:
(اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ من عذابِ جَهنَّمَ، وأعوذُ بِك من عذابِ القَبرِ، وأعوذُ بِكَ من فتنةِ المسيحِ الدَّجَّالِ، وأعوذُ بِك من فتنةِ المَحيا والمماتِ).
2 ـ إثبات عذاب القبر لبعض البشر.
خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقد وجبتِ الشمسُ، فَسَمِعَ صوتًا، فقال:
(يهودُ تُعذَّبُ في قبورِها). صحيح البخاري.
3 ـ وهل يأمرنا رسول الله أن نستعيذ من أمر غير موجود؟!
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(إذا تشهد أحدُكم فليستعذْ باللهِ من أربعٍ، يقولُ: اللهم إني أعوذُ بك من عذابِ جهنمَ، ومن عذابِ القبرِ، ومن فتنةِ المحيا والمماتِ، ومن شرِّ فتنةِ المسيحِ الدجالِ). رواه الترمذي.
4 ـ نجاة الشهيد من عذاب القبر دليل على وقوعه على من سواه..
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(للشهيدِ عندَ اللهِ ستُّ خصالٍ: يُغفرُ لهُ في أولِ دفعةٍ، ويَرى مقعدَهُ منَ الجنةِ، ويُجارُ منْ عذابِ القبرِ، ويأمنُ منَ الفزعِ الأكبرِ، ويُوضعُ على رأسِهِ تاجُ الوقارِ، الياقوتةُ منها خيرٌ منَ الدنيا وما فيها، ويُزوَّجُ اثنتينِ وسبعينَ زوجةً من الحورِ العينِ، ويُشفَّعُ في سبعينَ منْ أقاربِهِ(. رواه الترمذي.
5 ـ عذاب الميت في قبره..
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(الميتُ يعذَّبُ في قبرِه بما نيحَ عليه). رواه البخاري ومسلم..
6 ـ حقيقة عذاب القبر..
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:
مرَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقبرَينِ، فقال:
(إنهما لَيُعَذَّبانِ، وما يُعَذَّبانِ في كبيرٍ، أما أحدُهما فكان لا يَستَتِرُ منَ البولِ، وأما الآخَرُ فكان يَمشي بالنَّميمَةِ).
ثم أخَذ جَريدَةً رَطْبَةً، فشَقَّها نِصفَينِ، فغَرَز في كلِّ قبرٍ واحدَةً، قالوا: يا رسولَ اللهِ، لِمَ فعَلتَ هذا؟ قال:
(لعله يُخَفِّفُ عنهما ما لم يَيبَسا). صحيح البخاري.
7 ـ عذاب القبر..
عن عائشةَ رضي الله عنها أن يهوديةً دخلَتْ عليها، فذكرَتْ عذابَ القبرِ، فقالت لها: أَعَاذَكِ اللهُ من عذابِ القبرِ، فسألَتْ عائشةُ – رضي الله عنها- رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن عذابِ القبرِ، فقال:
(نعم، عذابُ القبرِ حقٌ).
قالت عائشةُ رضي الله عنها: فما رأيتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم – بعدُ صلَّى صلاةً إلا تَعَوَّذَ من عذابِ القبر. صحيح البخاري.
8 ـ هل هذه النار للتدفئة في القبر؟!
دعاء النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على المشركين يومَ الخَندَقِ:
(ملَأ اللهُ قبورَهم وبيوتَهم نارًا، كما شغلونا عن الصلاةِ الوُسطى حتى غابَتِ الشمسُ). صحيح البخاري.