هل قبض رسول صلى الله عليه وسلم في قيامه في الصلاة؟

Albaaj1015 أكتوبر 2024آخر تحديث :

القبض والسدل في الصلاة

هل قبض رسول صلى الله عليه وسلم في قيامه في الصلاة؟

تتراوح أدلة قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القيام في الصلاة، بين نص صحيح غير صريح، ونص صريح غير مُجمع على صحته، ولكن كثرة الآثار، وإشارتها إلى عمل بعض الصحابة والتابعين بالقبض، يجعلها أحاديث حسنة، يقوي بعضها بعضا.

والقاعدة عند العلماء أن الدليل إذا دخله الاحتمال يبطل به الاستدلال، ولكن الأدلة حين كثرت، جرى العمل بها دون إغفال الأصل: (السدل)، الذي ثبت في أحاديث صحيحة، لم تتطرق للقبض قط، فيكون السدل والقبض كلاهما سنة فعلية أو تقريرية.

أولا:

أدلة قبض رسول صلى الله عليه وسلم في قيامه في الصلاة:

1 ـ حديث البخاري: روى التابعي أبو حازم عن الصحابي سهل بن سعد قوله: (كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة)، وقال أبو حازم: لا أعلمه إلا يـُنمى ذلك إلى رسول الله.

  • النص لا يفيد صراحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبض، ولم يسنده الصحابي له.
  • النص لا يفيد صراحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر بذلك، ولم يسنده الصحابي له.
  • النص لا يفيد صراحة أن ذلك كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل الصحابي ذلك.
  • النص يوحي بأنه يتكلم عن أمر ليس عليه الناس في عصره، ولم يستقر عليه حال الناس، وأنها حالة حدثت سابقا وتوقفت، وأن الناس لم يستجيبوا لها.
  • سياق الحديث يفيد بأن الحديث، أقرب إلى أن يكون موقوفا، من أن يكون مرفوعا، خاصة أنه في أمر هام من أمور الدين، وهو هيئة عبادة مهمة، لا تحتمل الإبهام، وأن الصحابي لم يبين أن ذلك كان في عهد رسول الله أو بعده.
  • قول الصحابي: (كان الناس)، يوحي بأن الحديث لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان بعده، لأنه لو كان يتحدث عن الصحابة، لأجلهم بلفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصة أنه كان من أصغرهم سنا.
  • قول الصحابي: (يؤمرون) أي كان الأمر يتكرر عليهم من جهة ما، ولو كان الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه العبادة لكان النص: (أُمر الناس) لمرة واحدة وكفى، ولا يمكن أن يتكرر عليهم الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، في هيئة من هيئات العبادة ظاهرة للعيان، ثم لا يطيعوه، فيضطر الرسول صلى الله عليه وسلم، لأمرهم ثانية وثالثة.
  • قول الصحابي: (يؤمرون) أي أنهم لم يكونوا يفعلون ذلك، وإلا لما كان هناك مسوغ للأمر المستمر، لو كانت هذه هي الهيئة التي رأوا رسول الله يصلي بها.
  • قول الصحابي: (يضع الرجل)، تفيد بأن الأمر كان من رجل أو أكثر، للرجال الذين يشاهدهم يصلون، وليس أمرا من أمور التشريع، يكون للرجال والنساء، ولو كان من رسول الله لكان تشريعا لكل المصلين.
  • لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض بالصلاة، لما كان هناك من داع لأمر الناس باتباعه، والإلحاح عليهم لأن الصحابة، كانوا ملتزمين بالصلاة على هيئة الرسول صلى الله عليه وسلم إجمالا، امتثالا لقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، إلا إذا كان الأمر منه أحيانا للناس لصلاة النافلة، أو لمن يقبض بأمره أن يجعل اليد اليمنى فوق اليد اليسرى، وليس العكس، فكان الأمر لتصويب الوضعية الخاطئة لمن فعلها.
  • قول التابعي: (يُنمى) فعل مبني للمجهول، وهو أقرب إلى الظن منه إلى اليقين، وهو ظن التابعي، ولا تؤخذ العبادات بالظن، وقوله (يُنمى) مرسل عند البخاري، والظن المرسل ليس دليلا على شيء.

2 ـ حديث مسلم: عن محمد بن جحادة قال: حدثني عبد الجبار بن وائل عن علقمة بن وائل ومولى لهما أنهما حدثاه عن أبيه وائل بن حجر أنه: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة كبر ثم التحف بثوبه ثم وضع يده اليمنى على اليسرى).

  • محمد بن جحادة قال عنه ابن حجر في مقدمة الفتح: رمي بالتشيع، وهذا يتناقض مع شروط مسلم في الصحيح، وهو أن يكون سليم الاعتقاد، وجاء عند الذهبي في ميزان الاعتدال قول أبي عوانة الوضاح: كان محمد بن جحادة يغلو في التشيع.
  • السند منقطع من جهتين: إحداهما أن عبد الجبار روى عن مولى مجهول، والأخرى أن أخاه علقمة لم ير أباه، فقد قال ابن حجر في تقريب التهذيب: علقمة صدوق إلا أنه لم يسمع من أبيه وائل، وقال عنه البخاري: إن علقمة ولد بعد موت أبيه وائل بستة أشهر، وهذا قد يتناقض مع قول البخاري في التاريخ الكبير والترمذي في العارضة: (إن علقمة سمع من أبيه)، إلا أن الجرح مقدم على التعديل، وقال عنه النووي في تهذيب الأسماء: إن رواية علقمة عن أبيه مرسلة، وقال يحيى بن معين ـ الذي قال عنه أحمد بن حنبل: يحيى بن معين أعلمنا بالرجال ـ : (إن رواية علقمة عن أبيه مرسلة)، ولا يغيب عن المحدثين أن مرسل التابعي ضعيف، لا يأخذ الجمهور به في العبادات.
  • حتى لو صح نص الحديث، فإنه يوحي بأن الصحابي كان يخبر عن أمر ليس عليه حال المسلمين، الذين كانوا يصلون على هيئة صلاة رسول الله، وإنما يخبر عن حالة رآها على رسول الله، وهو يخبر عنها.
  • ووائل بن حجر الحضرمي، لم يكن ملازما لرسول الله، ولا مقيما في المدينة، بل أتاه زائرا، فربما رأى خلال زيارته حالة استثنائية لرسول الله قبض فيها، فلا يكون حجة على حديث أبي حميد الساعدي، الذي وصف صلاة رسول الله بحضور عشرة من الصحابة، ولم يذكر فيها القبض.

3 ـ حديث النسائي: عن عاصم بن كليب الجرمي عن أبيه عن وائل بن حجر قال: (نظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قام فكبر ورفع يديه حتى حاذتا أذنيه ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد)، وفي رواية عن مؤمل بن إسماعيل عن سفيان عن عاصم بن كليب عن أبيه وائل بن حجر قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع يده اليمنى على اليسرى على صدره).

  • قال الذهبي عن عاصم: كان من العباد الأولياء لكنه مرجئ، وقال يحيى بن القطان عنه: ما وجدت رجلا اسمه عاصم إلا وجدته رديء الحفظ، وقال ابن حجر: عاصم بن كليب عن أبيه عن جده ليس بشيء، وقال البخاري في مؤمل بن إسماعيل: منكر الحديث.
  • وفي الروايتين عنه، اضطراب واختلاف في المعنى.
  • حتى لو صح نص الحديث، فإنه يوحي بأن الصحابي، كان يخبر عن أمر ليس عليه حال المسلمين، الذين كانوا يصلون على هيئة صلاة رسول الله، وإنما يخبر عن حالة رآها على رسول الله، وهو يخبر عنها.
  • وثانية نؤكد أن وائل بن حجر الحضرمي، لم يكن ملازما لرسول الله، ولا مقيما في المدينة، بل أتاه زائرا، فربما رأى خلال زيارته حالة استثنائية لرسول الله قبض فيها، فلا يكون حجة على حديث أبي حميد الساعدي، الذي وصف صلاة رسول الله بحضور عشرة من الصحابة، ولم يذكر فيها القبض.

4 ـ حديث أبي داوود والنسائي: روى محمد بكار عن هشيم بن بشير عن الحجاج بن أبي زينب عن أبي عثمان عن ابن مسعود قال: (رآني النبي صلى الله عليه وسلم وقد وضعت شمالي على يميني في الصلاة فأخذ بيميني ووضعها على شمالي).

  • في سند الحديث محمد بن بكار، وقد قال عنه الذهبي في الميزان: هو مجهول، وقال في تقريب التهذيب عن هشيم بن بشير: كثير التدليس، والإرسال الخفي.
  • أما الحجاج بن أبي زينب، فقد ضعفه ابن المديني والنسائي وأحمد والدارقطني.
  • في المتن اتهام لابن مسعود، بأنه لم يكن يعرف كيف يصلي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو من أقرب صحابته إليه، وأعلمهم بهيئة صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
  • إن صح السند، فهو يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجه من يريد أن يقبض أن يجعل اليمنى فوق اليسرى، ولم يأمر به بداءة، وأن ابن مسعود قبض دون أن تكون هناك هيئة للقبض، لأنه لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض، فصوب له رسول الله هيئة القبض لمن أراد أن يقبض.
  • وقال عنه الألباني في أصل صفة الصلاة: إسناده صحيح على شرط مسلم، وهو كما قال، إلا أن الحجاج بن أبي زينب فيه مقال.

5 ـ حديث أحمد وابن ماجه والترمذي والدارقطني: روى قبيصة بن هلب عن هلب الطائي قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه).

  • قال أحمد في قبيصة: مضطرب الحديث، وقال النسائي: كان يلقن فيتلقن، وضعفه سفيان وشعبة، وقال عنه الشوكاني: مجهول.
  • وقال عنه الألباني في أصل صفة الصلاة: رجاله رجال مسلم، غير قبيصة بن هلب، مثله حسن الحديث في الشواهد.

6 ـ حديث أبي داوود عن علي: روى عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (من السنة وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة تحت السرة).

  • قال أحمد عن الراوي عبد الرحمن: ليس بشيء، منكر الحديث، وقال النووي في شرح مسلم: ضعيف بالاتفاق.

7 ـ حديث أبي داوود عن أبي هريرة: روى عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: (أخذ الأكف على الأكف تحت السرة).

  • قال أحمد عن الراوي عبد الرحمن: ليس بشيء، منكر الحديث، وقال النووي في شرح مسلم: ضعيف بالاتفاق، وضعفه كل من البخاري وأحمد والشوكاني وأبي داوود، والعظيم أبادي، والمباركفوي، وابن باز، والألباني.

8 ـ حديث مالك والدارقطني عن ابن عباس: رويا عن ابن عباس مرفوعا: (إنا معشر الأنبياء أمرنا بأن نمسك بأيماننا على شمائلنا).

  • في إسناد الحديث طلحة بن عمرو، قال عنه البخاري وابن المديني: ليس بشيء، وقال عنه أحمد والنسائي: متروك الحديث.
  • وضعفه محمد بن عبد الهادي، والذهبي، والزيلعي، وابن رجب، وابن حجر العسقلاني، والألباني.
  • وسليمان عليه السلام توفي وهو يصلي، (على رأي بعض أهل العلم)، ولم يكن قابضا حتى أن الجن لم تعلم بموته، إلا بسقوطه، عندما أكلت دودة الأرض عصاه.

9 ـ حديث ابن حزم والبيهقي والدارقطني عن عائشة: (ثلاث من النبوة: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليمنى على اليسرى في الصلاة).

  • رُوي الحديث عن عائشة موقوفا دون إسناد، وهو ما يجعله غير صالح للحجة، لأنه منقطع.
  • وضعفه الهيثمي.
  • حتى لو صح الأخذ بالحديث، فهو لم يبين أن تلك الحالة كانت حالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الثابتة في الصلاة، بل هي حالة عامة.
  • ذكر بعض أهل العلم، أن سليمان عليه السلام توفي وهو يصلي، ولم يكن قابضا، حتى أن الجن لم تعلم بموته إلا بسقوطه، عندما أكلت دودة الأرض عصاه.

10 ـ حديث أبي داوود عن ابن الزبير: روى قول عبد الله بن الزبير: (صف القدمين، ووضع اليد اليد على اليد من السنة).

  • متن الحديث متناقض، مع فعل المتحدث ابن الزبير نفسه، ومع أحاديث أخرى.
  • اتفق السلف على أن ابن الزبير، كان يسدل يديه في الصلاة، وليس من المعقول أن يقر أن السنة وضع اليد على اليد، ثم يخالفها متعمدا.
  • صف القدمين مكروه، فكيف يجعله عبد الله بن الزبير من السنة؟
  • والألباني ضعف الحديث.

11 ـ قول الله تعالى: {فصل لربك وانحر}:

  • هذه الآية ليست دليلا واضحا على القبض.
  • قرر أكثر المفسرين أن معناها الصلاة والعبادة لله تعالى، والذبح لله تعالى، خلافا لما كان يفعله المشركون.
  • لم يصح نقلا بأي أثر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أحد أصحابه، كان يضع يده على نحره في الصلاة.
  • يتنافى مع البلاغة عطف جزء يسير من الصلاة وهو القبض، بلفظ النحر إلى الصلاة، وعادة يكون عطف الخاص على العام، إذا كان الخاص أهم من العام، أو لتمييزه بأمر مهم، كقوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}.

12 ـ حديثُ أنسٍ رضي الله عنه، الذي رواه مسلم في صحيحه: (قال: كان رسولُ اللهِ إذا قال: سمِعَ اللهُ لِمَن حمِدَه قام حتَّى نقولَ: إنَّه قد أوهَمَ).

ومن يرى وجه الدلالة فيه، أنَّ فيه إشارةً إلى أنَّ قيامَه بعد الرُّكوعِ، لا يختلِفُ عن قيامِه قبل الرُّكوعِ في الهيئةِ، ومنها وضعُ اليدينِ، وإلَّا لَمَا ظنُّوا أنَّه أوهَمَ أنَّه في القيامِ الذي بعد الرُّكوعِ؛ لأنَّ وَضْعَ اليدينِ فيه مختلِفٌ، فهم يفترضون أنه كان قابضا قبل القيام، مع أن هذا دليل على أنه لم يكن قابضا قبل القيام ولا بعده.

13ـ حديث أبي الدرداءِ: (من أخلاقِ النبيينَ صلَّى اللهُ عليهم وسلَّمَ وضْعُ اليَمينِ على الشِّمالِ في الصلاةِ).

وهذا يدل على أنها ليست جزءا من هيئة العبادة، وإنما من أخلاقهم ـ إن وضعوا أيديهم ـ أن يضعوا اليمنى على اليسرى.

14 ـ روي عن علي رضي الله عنه (أنه كان إذا طول في قيامه في الصلاة يمسك بيده اليمنى ذراعه اليسرى في أصل الكف إلا أن يسوي ثوبا أو يحك جلدا).

  • الحديث ضعيف الإسناد.
  • حتى لو صح الحديث فالتطويل يكون في النوافل، وليس في الفريضة.
  • وهذا يعني أنه إذا لم يطول لم يقبض.

15 ـ احتجوا بأن كراهة مالك للقبض في الصلاة، إنما كانت كراهة للاعتماد عليه، والاستعانة به، وليس لذاته، وهذا مردود بأن مالك لو ظن أن القبض سنة، لما أجاز لنفسه كراهة سنة بحجة أنها تريح المصلي، وتعينه على الوقوف.

16 ـ احتجوا بأن كراهة مالك للقبض في الصلاة، إنما كانت كي لا يظن الناس أنه ركن من أركان الصلاة، وهل تتحول السنة إلى مكروه، بسبب جهل الناس بها؟ وهل يحق لمالك أن يحول السنن إلى مكروهات، بدل أن يعلم الناس حقيقتها؟ وهل هي السنة الوحيدة في الصلاة؟!

خلاصة أدلة القبض:

ثبت القبض في عدد من النصوص والروايات، التي يحسن بعضها بعضا، وأنه أحد أوضاع القيام في الصلاة، ولكن لم يثبت، أنه كان حالة رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة.

ثانيا:

أدلة سدل رسول صلى الله عليه وسلم في قيامه في الصلاة:

الأدلة العقلية:

  • القبض فعل غير جبلي، وله مواصفات دقيقة، ولا بد من دليل قاطع على فعل الرسول له، ليكون هو الأصل.
  • السدل لا يحتاج لدليل لفعله، لأنه ليس فعلا، وإنما هو من جبلة الإنسان، وإنما يتطلب الفعل الدليل.
  • عدم وجود دليل على فعل أمر ما ـ شرعا ـ يعني دليلا على عدم وجوب فعله.
  • وجود تشريع كامل واضح لا يحتوي على أمر ما، يدل على مشروعية عدم وجوب هذا الأمر.
  • لم يرد في فقهاء الأمة الأوائل من (القرون الأولى) من نفى السدل، وبين أن القبض هو الأصل، وحتى الذي رووا القبض، فإنهم رووه بوصفه حالة أخرى، وليس بديلا عن القبض، أو أنه فعل رسول الله العام، بينما هناك في القرون الأولى من تمسك بالسدل، نافيا أصولية القبض عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
  • المفتون بالقبض يقولون عن وضعيات القبض كثيرا: (إن وشاء وضع كذا وكذا، وإن شاء وضع كذا وكذا)، وهو الملاحظ في صلوات الناس، فالأيدي تتنوع مواقع وضعها: (من تحت السرة حتى النحر)، وتختلف بين الناس: (من وضع اليدين كاملتين على بعضهما، إلى وضع كف على كف)، ولو كانت سنة ثابتة عن رسول الله في صلواته، لكانت هناك وضعية وهيئة واضحة ثابتة لها.

أدلة النصوص:

1 ـ حديث أبي هريرة: (ارجع فصلِّ): قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل، الذي لا يحسن الوضوء: (إذا قُمْتَ إلى الصلاةِ فأسبِغِ الوُضوءَ، ثم استقبِلِ القِبلةَ فكبِّرْ، ثم اقرَأْ بما تيسَّر معَك منَ القرآنِ، ثم اركَعْ حتى تَطمَئِنَّ راكِعًا، ثم ارفَعْ حتى تستوِيَ قائِمًا، ثم اسجُدْ حتى تَطمَئِنَّ ساجِدًا، ثم ارفَعْ حتى تَطمَئِنَّ جالِسًا، ثم اسجُدْ حتى تَطْمَئِنَّ ساجِدًا، ثم ارفَعْ حتى تَطمَئِنَّ جالِسًا، ثم افعَلْ ذلك في صلاتِكَ كلِّها). رواه البخاري.

  • لم يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، القبض في الصلاة.

2 ـ حديث أبي حميد: حيث وصف أبو حميد رضي الله عنه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحضور عشرة من أصحاب رسول الله منهم: (سهل رضي الله عنه صاحب حديث: كان الناس يؤمرون)، ولم يعترضوا عليه، بعد وصف صلاة الرسول، مع أنهم تحفظوا على قوله بداية، عندما قال لهم: (أنا أعلمكم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم)، وقالوا له: (فلم؟ فوالله ما كنت بأكثرنا تبعا ولا أقدمنا له صحبة) حيث قال: (كان رسول الله إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر، حتى يقر كل عظم في موضعه معتدلا، ثم يقرأ، ثم يكبر فيرفع يديه، حتى يحاذي بها منكبيه، ثم يركع ………………). رواه أبو داوود وابن حزم والمغني.

  • لم يذكر الصحابي في وصف صلاة النبي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبض في صلاته، بالرغم من أنه ذكر ما هو أقل من القبض في هيئة الصلاة، وهو رفع اليدين أثناء التكبير لثوان معدودات.
  • لو كان القبض من سنن الصلاة، لاحتج عليه الصحابة، المنكرين عليه زعمه أنه أعلمهم بصلاة النبي، بعد عرضه، ولقالوا له: (نسيت سنة)، ولكنهم قالوا له: (صدقت)، ولم يتوقفوا عند تجاهله القبض، في صفة صلاة الرسول.

3 ـ حديث ابن عباس: حيث يصف تهجده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بيت خالته ميمونة فقال: (فقمت إلى جنبه فوضع رسول الله يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني اليمنى يفتلها……). رواه البخاري.

  • لم يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبض في صلاته، بالرغم من أنه ذكر ما هو أقل من القبض في هيئة الصلاة، وهو رفع اليدين أثناء التكبير لثوان معدودات.
  • يتنافى القبض مع وضع يده على رأسه، وقد أثبت وضع يده على رأسه، وفيه نفي للقبض، لتعذر اجتماعهما.

4 ـ حديث ابن عمر: حيث كان يصف صلاة النبي فقال: إذا استفتح الصلاة (رفع يديه حذو منكبيه). رواه الترمذي، والنسائي، وأحمد، والطحاوي، والمحلى، وابن عبد البر، وابن كثير، وأحمد شاكر.

  • لم يذكر أن رسول الله قبض في صلاته، مع أنه ذكر أمورا أقل أثرا في هيئة الصلاة.

5 ـ حديث الموطأ: قال السائب بن يزيد: (أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وكان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام). رواه المباركفوي.

  • لا يستقيم القبض والاعتماد على العصي في آن واحد، وهذا يعني أنهم لم يكونوا يقبضون.
  • لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقبض لقبضوا ولم يعتمدوا على العصي.
  • ربما جاء القبض (للاستعانة)، بأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حين رآهم يعتمدون على العصي، شفقة على وقوفهم، وهو يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجازه، ففضله على الاعتماد على العصي.

6 ـ قول مجاهد: روي عن التابعي مجاهد قوله: (إن كان وضع اليمين على الشمال فعلى كفه أو على الرسغ عند الصدر) وكان يكره ذلك.

7 ـ فعل سعيد بن جبير: جاء في التمهيد: قال عبد الله بن العيزار: كنت أطوف مع سعيد بن جبير، فرأى رجلا يصلي، واضعا إحدى يديه على الأخرى، فذهب ففرق بينهما.

  • هذا يدل أن أهل الحرم في ذلك الوقت ـ وهم خير السلف ـ لم يكونوا يقبضون، بل كان هذا الرجل هو الوحيد القابض.

8 ـ فعل سعيد بن المسيب: جاء في التمهيد: قال عبد الله بن يزيد: ما رأيت سعيد بن المسيب قابضا يمينه على شماله في الصلاة؛ كان يرسلهما.

9 ـ روى عبد الرزاق عن الثوري، وهشيم عن المغيرة، عن إبراهيم النخعي، أنه كان يصلي مسدلا يديه في الصلاة، وقال الحافظ محمد الخضر في (إبرام النقض): ومن الآثار المصرحة بالإرسال، ما أخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وابن المسيب سيد التابعين، وابن سيرين، وسعيد بن جبير الإمام المحدث الكبير، كانوا يرسلون، وروى ابن أبي شيبة عن أهل مكة، عن عمر بن دينار، قال: كان ابن الزبير إذا صلى يرسل يديه.

10 ـ الليث بن سعد: ورد في التمهيد قول الليث بن سعد: سدل اليدين في الصلاة أحب، إلا أن يطيل القيام فيعيا، فلا بأس أن يضع اليمنى على اليسرى.

11 ـ البخاري عن علي: صرح البخاري في تبويبه بأن وضع اليد اليمنى على اليسرى من باب الاستعانة في الصلاة.

12 ـ قول الإمام مالك وهو إمام دار الهجرة عن القبض: (لا أعرفه في الفريضة).

  • كان مالك ومن سبقه، في عصر التابعين، الذي شهدوا المهاجرين والأنصار، الذين تلقوا مناسك الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
  • لو كان فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكان أولى أن يكون في الفريضة.
  • هذا يدل على أنه لا بأس به في النافلة.

13 ـ روى المنذري في الترغيب والترهيب الحديث الصحيح الثابت: (أَقيموا الصُّفوفَ وَحاذوا بينَ المَناكبِ)، ولا يمكن أن تتحقق المحاذاة بين المناكب، مع القبض، خاصة عندما تتنوع طرائق القبض، وعندما يكون هناك تفاوت في أطوال المصلين، بينما تتحقق المحاذاة مع السدل، الذي يساعد على تسوية الصفوف أيضا.

14 – يروي عبد الرزاق في المصنف عن إمام مكة ابن جريج كراهية القبض، وقال عبد الرزاق رأيت ابن جريج يصلي في إزار ورداء مسبلا يديه، وقال: أهل مكة يقولون: أخذ ابن جريج الصلاة عن عطاء، وأخذ عطاء الصلاة عن ابن الزبير، وأخذ ابن الزبير الصلاة عن أبي بكر، وأخذها أبو بكر عن رسول الله، وقال: ما رأيت أحسن صلاة من ابن جريج.

15 – سئل ابن سيرين عن الرجل يمسك يمينه بشماله، فقال: إنما فُعل ذلك لأجل الدم، أي تجمع اليد في اليدين عند الإطالة، وكان هذا رأي الإمام الأوزاعي أيضا.

ثالثا:

القبض بعد الرفع من الركوع

في الوقت الذي وقع فيه الاختلاف في مشروعية القبض في القيام في الصلاة، وثبوت أن بعض أصحاب رسول الله كانوا يفعلونه استعانة، وأن رسول الله أقرهم عليه، فإنه لم يثبت بأي دليل صحيح صريح القبض بعد الرفع من الركوع، وقد أثبته بعض المتأخرين وجعلوه سنة، اعتمادا على التسليم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقبض في القيام، وقد عده بعض العلماء مبطلا للصلاة، وقال عنه الشيخ الألباني رحمه الله، في كتابه صفة صلاة الرسول: (بدعة ضلالة).

ومن الطريف أن النصوص، التي يستند إليها من ينادون بالقبض بعد الركوع، هي نفسها أدلة عدم القبض إطلاقا لا قبل الركوع ولا بعده.

رابعا:

بطلان القبض بعد الركوع

1 ـ حكم قبض اليدين في الصلاة بعد الركوع عند المحدث الألباني..

يقول الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله، في كتابه صفة صلاة النبي (ص 120):

ولست أشك في أن وضع اليدين على الصدر في هذا القيام: (يعني: بعد الرفع من الركوع)، بدعة ضلالة، لأنه لم يرد مطلقا في شيء من أحاديث الصلاة ـ وما أكثرها ـ ولو كان له أصل، لنقل إلينا، ولو عن طريق واحد، ويؤيده أن أحدا من السلف لم يفعله، ولا ذكره أحد من أئمة الحديث فيما أعلم.. انتهى كلام الألباني..

2 ـ الشيخ الألباني كان يرد على الرأي الذي تبنته اللجنة الدائمة، التي يراها توهمت في فتوى وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة بعد الركوع، وإنما أثبت القبض في القيام قبل الركوع.. ولم يصح لدى الشيخ الألباني دليل واضح أن أحد السلف فعل ذلك..

3 ـ للتوضيح ولمنع التدليس دون أن نشعر: الخلاف بين رأي الشيخ الألباني رحمه الله، ورأي اللجنة الدائمة للإفتاء في المملكة ـ غفر الله لهم جميعا ـ ليس حول القبض في الصلاة، أثناء القيام، فهما متفقان عليه.

الخلاف أن الشيخ الألباني لا يرى أي سند شرعي للقبض بعد الركوع، ويرى ذلك مما استحدثه الناس بعد عصر النبوة، ولا يوافق على استحداث شيء في العبادات، لأن الدين تام كامل، لا يقبل الزيادة في العبادة بالتأويل.

خامسا:

النتيجة

يتضح من كل ما سبق:

1 ـ أنه لم يثبت في حديث صحيح صريح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض في صلاته، لا في فريضة ولا في سنة، وإنما هناك أحاديث، لم يتفق العلماء على صحتها، حسن بعضها بعضا، في أنه قبض في بعض الحالات، فتكون حالتا القبض والسدل سنة.

2ـ أن بعض أصحاب رسول الله كانوا يقبضون، وأن بعضهم كان يأمر بالقبض، ولكن ذلك أثبت في السنن، منه في الفريضة.

3 ـ أن القبض كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أجازه، ووجه القابض أن تكون يده اليمنى على يده اليسرى، وأنه كان فعلا مباحا للاستعانة في الصلاة، وليس هيئة أصلية من هيئاتها.

4 ـ أن القبض الذي أقره السلف، هو القبض في الصلاة أثناء القيام، وليس في قيام ما بعد الرفع من الركوع.

سادسا:

ما ورد في الدرر السنية..

اختلَف أهلُ العلمِ في حُكمِ وضعِ اليدِ اليُمنى على اليُسرى بعد الرَّفعِ مِن الرُّكوعِ، على ثلاثةِ أقوالٍ:

القولُ الأوَّلُ: يُسَنُّ وضعُ اليدِ اليُمنى على اليُسرى بعد القيامِ مِن الرُّكوعِ، وهو قولُ بعضِ الحنَفيَّةِ، والهيتميِّ مِن الشافعيَّةِ، وهو اختيارُ ابنِ حزمٍ، وابنِ بازٍ، وابنِ عُثَيمين، وبه أفتَتِ اللَّجنةُ الدَّائمةُ.

القولُ الثاني: لا يُسَنُّ وضعُ اليدِ اليُمنى على اليُسرى بعد القيامِ مِن الرُّكوعِ، وهذا مذهبُ جمهورِ الفُقهاءِ؛ مِن الحنفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والشافعيَّةِ، وقولٌ عند الحنابلةِ، ومذهب الألباني؛ وذلك لأنَّه لم يرِدْ مطلَقًا في شيءٍ مِن أحاديثِ الصَّلاةِ، ولم يُنقَلْ عن أحدٍ مِن السَّلفِ وضعُ اليدينِ على الصَّدرِ بعد الرَّفعِ مِن الرُّكوعِ.

القولُ الثالثُ: إن شاءَ وضَع اليدَ اليُمنى على اليُسرى، بعد القيامِ مِن الرُّكوعِ، وإن شاءَ لم يضَعْ، وهذا مذهبُ الحنابلةِ؛ وذلك لعدمِ وجودِ دليلٍ صريحٍ في القبضِ أو الإرسالِ بعد الرَّفعِ مِن الرُّكوعِ.

سابعا:

الوسطية والاعتدال في القبض والإسدال في الصلاة:

سأختم بهذا الألم: من أشد أوجاعنا أن المتعصبين للقبض، النافين للسدل، الرافضين له، يتعصبون لمذهب سياسي، ضد مذهب سياسي آخر.

وأن المتعصبين للسدل، الرافضين للقبض، يتعصبون لمذهب سياسي، ضد مذهب سياسي آخر.

وجاءت فتوى القبض بعد القيام من الركوع، وكأنها تبالغ في التعصب لمذهب، مقرعة المذهب المخالف.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.